قال الله تعالى "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا " لقد اكتسبت الترجمة أهمية قصوى وبعد استراتيجياً فرضه واقع العصر على جميع دول العالم غنيها و فقيرها. ولقد اتضحت بشكل أكثر حاجة شعوب الأرض للتعارف و التسامح والحوار فيما بينها في هذا العصر الذي تحولت فيه الكرة الأرضية إلى قرية بفعل سرعة وسائل الاتصالات والمواصلات . كما أثبتت أحداث السنوات القليلة الماضية فضاعة الربط بين الأديان والتطرف الديني والعرقي و الإرهاب مما حتم الحوار بين عقلاء البشرية لتجنب الكثير من المآسي والحروب و الصراعات .كما أبرز تفاقم الأزمة المالية وامتداد تأثيراتها على اقتصاديات دول العالم أجمع ونشوء العولمة الاقتصادية والاعتماد الاقتصادي المتبادل بين جميع دول العالم الحاجة الماسة للتعارف والحوار بين الشعوب و الدول والحضارات و أتباع الأديان .
أن أداة التعارف والحوار بين الشعوب و الدول والحضارات هي الترجمة ولكي تتفاهم الشعوب و الدول والحضارات وأتباع الأديان لا مناص من تركيز دول وشعوب وحضارات العالم على ترجمة ما تريد أن تحاور به الدول والشعوب وأتباع الحضارات والديانات الأخرى وتنشره عبر وسائل النشر مثل الانترنت و عبر مواقع تخصصها كل دولة للحوار أو من خلال قناة تستحدث بمسمى الحوار من أجل السلام العالمي . أن الحوار والتفاهم بين الدول والشعوب انفع وسيله يمكن أن تسلكها الدول الحريصة على التفاهم والسلام العالمي والتعايش السلمي بين الشعوب وانفع وسيله يمكن أن تتبناها الأمم المتحدة لخير البشرية . لقد قامت عدة كليات للغات والترجمة في جامعات المملكة وتخرج منها عدد من المتخرجين إلا أن برامج تلك الكليات تعاني من عدم الإقبال على بعض تخصصاتها لوقوف نشاط الترجمة في بلادنا واقتصاره على لغة أو لغتين وبعده عن جميع ما تهدف إليه دعوة خادم الحرمين الشريفين حفظه الله للحوار بين الدول و الشعوب وأتباع الحضارات والديانات .
أما على صعيد دور الترجمة في تسريع التحول إلى اقتصاد المعرفة فلقد استثمرت المملكة أموالاً طائلة في مشاريع تنموية صناعية وطبية وبترولية وبتروكيماوية والمملكة كباقي الدول النامية تعتمد على التقنية المستوردة وتفتقر المملكة إلى القاعدة العلمية التي تستطيع أن تبني أو تشارك في بناء التقنية الصناعية في المملكة . وللخروج من دوامة الحاجة التقنية للآخرين لابد للمملكة من بناء قاعدة علمية راسخة وتأهيل عمالة سعودية علمياً وتقنياً لبناء وصيانة و تطوير المصانع والتقنيات التي اشترتها المملكة. وحيث أن جميع طلاب التعليم العالي العلمي في المملكة من الناطقين باللغة العربية كلغة أم ودرسوا العلوم في المرحلة الثانوية وما قبلها باللغة العربية فلا شك أن ترجمة العلوم والتقنية وتدريسهما بلغتهم الأم في التعليم العالي سيكون هو الطبيعي والأسهل و بالإضافة إلى أن التعليم باللغة الأم حق من حقوق الطالب المشروعة وتعليمه بغيرها – بأي لغة أجنبية – يمثل حرماناً له من هذا الحق . لقد ثبت بالتجربة أن من يدرسون العلوم بلغتهم الأم يفهمونها بشكل أفضل ويتذكرونها لمدة أطول . كما ثبت عملياً إن الدول التي ترجمت العلوم والتقنية ويسرتها لأبنائها بلغاتهم الأم كاليابان وكوريا و روسيا و الصين و فيتنام , تقدمت علمياً وتقنياً واقتصادياً بشكل أسرع من الدول التي تدرس العلوم والتقنية في جامعاتها باللغات الأجنبية مثل معظم دول العالم الثالث بما فيها غالبية الدول العربية . والسبب واضح فعندما يتعلم الطالب بلغته الأم تدخل مفاهيم العلوم والتقنية في صميم تركيبة العقلي وذاكرته وخبراته السابقة, ولا تحول اللغة الأجنبية بينه وبين الفهم الصحيح و السريع , وبذلك يصبح أقدر على الفهم والإبداع العلمي و التقني. و في المقابل نجد انه عندما يتعلم الطالب العربي باللغة الإنجليزية نجمع عليه صعوبتين في وقت واحد صعوبة اللغة الإنجليزية التي لا يجيدها وصعوبة المادة العلمية أو التقنية وبهذه الطريقة نعرض الطالب للفشل والإحباط ونهدر وقته وجهده في الترجمة بين فكره ولسانه . إن توافق فكر الطالب ولسانه شرط لتحقيق الفهم ثم الإبداع , وليس هناك أصعب على الطالب العربي الذي اعتاد أن يفكر ويعبر باللغة العربية بشكل آلي في مرحلة ما قبل التعليم العالي من أن يتعلم تخصصه العالي العلمي والتقني و يفكر فيه و يتحدث عنه بلغة أجنبية لا يتقنها . وتزداد الأمور تعقيداً عندما يتعلق التعلم والتفكير والفهم والحديث بمفاهيم علمية تكتنفها الصعوبة حتى لو تعلمها الطالب باللغة العربية لغته الأم .
أن التعليم العالي العلمي والتقني باللغة الإنجليزية في المملكة يمثل هدراً تربوياً هائلاً لجهد و وقت و مصادر كل من الطالب والمجتمع ومؤسسات التعليم العالي لطالما تسترت جامعاتنا عليه لعقود . أن التحول لاقتصاد المعرفة لا يمكن أن يتحقق في ظل تسرب من كلياتنا العلمية يتجاوز 60 % والأرقام والإحصائيات تشهد بذلك ومن يشك في ذلك فليراجع أعداد المقبولين والمتخرجين من الأقسام العلمية في جامعاتنا التي تدُرس العلوم باللغة الإنجليزية وذلك بأسلوب تتبع الفوج . أن هذا الهدر المرتفع في جامعاتنا في المجالات العلمية والتطبيقية وقلة المؤلفات العلمية والتطبيقية في عالمنا العربي عامة حيث كشفت أرقام تقرير التنمية الثقافية 2007م قلة المؤلفات في العلوم حيث بلغت 1129 كتاباً من 27809 كتب على مستوى العالم العربي كله . فكيف لنا أن نتحول إلى اقتصاد المعرفة مع ندرة الكتاب العلمي وقلة المتخرجين من العلميين والتقنيين . أن الترجمة وسيله مبتعثينا المبدعين وأعضاء هيئة التدريس في جامعاتنا العلمية والتطبيقية لاستدراك ما فات و نقل المعرفة و العلوم والتقنيات التي تعلموها بلغات الدول التي درسوا فيها إلى لغتنا العربية وإثراء مكتبتنا العلمية بترجمات عربية لتلك المعارف والعلوم وذلك لتوطين العلم والمعرفة العلمية في بلادنا و المساعدة في تسريع التحول إلى اقتصاد المعرفة الذي تبناه خادم الحرمين الشريفين وفقه الله . و لابد من التنويه بان تدريس العلوم باللغة العربية لا يعني بحال عدم تعلم اللغة الانجليزية بل يجب إتقانها لكل حاصل على البكالوريوس في المملكة وبشكل إلزامي لا مجال للتنازل عنه.
لقد أسس خادم الحرمين الشريفين حفظه الله جائزته للترجمة قبل سنوات ثم أطلق مبادرته العالمية للحوار وتبنى التحول إلى اقتصاد المعرفة في المملكة وتم أطلاق برنامج خادم الحرمين الشريفين للأبتعاث إلى كل دول العالم والذي ابتعث بموجبه حتى الآن أكثر من خمسين ألفاً مبتعث في الكثير من دول العالم .
أن كل هذه التحولات الإستراتيجية التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين حفظه الله تستدعي تطوير فكرة جائزة خادم الحرمين الشريفين حفظه الله للترجمة إلى هيئة الملك عبد الله للترجمة والحوار لتخدم هدف وطني ملح هو تسريع التحول إلى اقتصاد المعرفة وهدف قومي أكثر إلحاحا هو سد النقص الهائل في الكتب التدريسية و المرجعية العلمية والتقنية المترجمة إلى اللغة العربية و هدف عالمي لخدمة الحوار بين الدول و الشعوب و أتباع الديانات و الحضارات .أن قيام هذه الهيئة يمثل ضرورة وطنية وقومية وعالمية ويمكن أن ينطلق مع قيامها قناة فضائية للحوار تعرض بلغات الشعوب ما ترغب تلك الشعوب أن تعرضه على الشعوب الأخرى وترجمة تلك المواد لتعميق الحوار و التفاهم بين شعوب العالم .
أن قيام تلك الهيئة سيقدم للوطن و العالم العربي و دول وشعوب العالم خدمة جليلة لا سابق لها ويمكن أن يتم تمويل تلك الهيئة ذاتياً ومن مساهمات دول العالم المحبة للحوار والسلام ومن دعم الأمم المتحدة لها وسيسجل التاريخ للملك عبد الله رعاه الله شرف تأسيس هذا الكيان الحواري والمعرفي الذي سيكون منبراً دولياً لتجسيد دعوته حفظه الله للحوار والتفاهم و التعايش السلمي و إسعاد البشرية ويسرع في تحول المملكة إلى اقتصاد المعرفة .
د/عيد عبد الله سالم الشمري
عميد كلية اللغات والترجمة بجامعة الملك سعود سابقاً
وعضو مجلس الشورى سابقاً